التفكير في الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
التفكير في الدين
أوردت جريدة الإتحاد الإشتراكي عدد 1339 الصادر يوم الأربعاء 26ذو القعدة 1418هجرية الموافق 25مارس 1998ميلادية، في الصفحة الأخيرة – مقاربات – بيانا حول كتاب النساء والإسلام، الذي يتجه حسب ما جاء في البيان نحو إعادة النظر في التأويلات الدينية التقليدية عن المرأة، فاقتطفت من مقدمته فقرة أثار إنتباهنا منها نقتطان أساسيتان، إرتأينا وجوب التعقيب عليهما بما ينير الأفهام ويزيل الخفاء الداخل من مقتضاهما، وهاتان النقتطان هما:
إحداهما – الإسلام ليس موضوعا محرما، وأن التفكير في الدين ليس من إختصاص –رجال الدين-.
ثانيهما – أنه للباحثين والأفراد والمتعلمين الحق الدي تخوله لهم المعرفة في دراسة النص المقدس ومساءلة مختلف التأويلات التي خضع لها وتحليل الممارسات الإجتماعية التي أدى إليها.
فأقول وبالله التوفيق:
المؤهلون للتفكير في الدين:
جميل أن يقال بأنه يجب علينا التفكير في الدين، ومن الإنصاف أن نسعى إلى هذا التفكير قصدا إلى تطبيق أحكام الشرع وتأويلها تماشيا مع المستجدات ومسايرة لعصرنا وتفاعلا مع واقعنا، وحتى لا نكون إمعة وعالة على غيرنا، كما أمرنا الشارع الحكيم. لكن ليس من الإنصاف في شيء أن نسعى إلى هذا التأويل كيفما إتفق، إذ أن لكل مشروع خططه، ولكل علم قواعده وأدواته، ولكل غاية وسائلها، ومن مقتضى هذا أن لكل خطة مخططون، ولكل علم علماء بقواعده، ولكل وسيلة عارف بها.
ولا ريب إذا أن للدين علماء به، عارفون بحلاله وحرامه، بمحكمه ومتشابهه، مجمله ومفسره، ما يحتاج إلى تأويل وما لا يحتاج إلى ذلك، عارفون بقواعده ومبادئه وأصوله، متمرسون به وبنقلته، يميزون بين من تقبل روايته منهم ومن ترد، السني منهم والمبتدع، المعدل والمجرح، عارفون بتاريخه وأطواره، حذقوا القرآن والسنة حتى أوتوا حدسا لا يخطىء غالبا، فمن القرآن والسنة إستقوا نهجهم ومن أصولهما إستنبطوا أحكامهم، وعلى مبادئهما بنوا إجتهادهم.
إننا إن إستفدنا شيئا من هذا الكلام، إنما نستفيد منه أن للدين من يقوم به دون غيره، ممن يقصر عن بلوغ هذه المرتبة، وأن له سبلا لايجوز سلوك غيرها للنيل من معينه، وأن له قواعد لا يستقيم الخوض في تلك السبل إلا بها.
أدلة هذه الأهلية:
إن العلماء هم الذين جعل لهم الحق سبحانه حق الخوض في الدين، ولم يجعل ذلك لغيرهم ولا وكله لعوام المسليمن، قال الله تعالى في سورة الأنبياء: « فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (1)
بل أوجب سبحانه إيجاد هذه الفرقة في الأمة للتفقه وتبيان أحكام الدين، قال تعالى في سورة التوبة:« فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» الآية. (2)
فخص الله سبحانه طائفة للبحث عن جزئيات الأحكام بعد التفقه والمعرفة التامة بالدين، وفرض على سائر أفراد الأمة العلم الضروري لإقامة الأركان.
فيكون الخاصة، أي العلماء، هم أهل الإجتهاد والإستنباط، ويكون العامة بمختلف أصنافهم تبعا لهم فيما يستنبطونه من الأحكام الملزمة للمكلفين، حسب أنواع الأحكام، بأي طريق تم التوصل إليها من طرق الإستنباط.
فضل العلماء:
و لا يخفى على اللبيب المنصف ما للعلماء من مكانة رفيعة عند الله عز وجل، قال الله تعالى في سورة المجادلة:« يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (3).
ونفى سبحانه المماثلة بينهم وبين غيرهم، قال تعالى:« قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » (4).
وقرن الله تعالى شهادتهم بشهادته عزوجل وبشهادة ملائكته، قال تعالى:« شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ » (5).
وفي السنة أن العلماء ورثة الأنبياء، قال البخاري رحمه الله: وأن العلماء ورثة الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر.
أورده معلقا (6)، وهو جزء من حديث طويل (يبين فضل طلب العلم والعلماء) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وغيرهم.
وبوب البخاري أيضا (بقوله): باب الإنصات للعلماء (7).
وروى الأصفهاني عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« يجاء بالعالم والعابد، فيقال للعابد أدخل الجنة ويقال للعالم قف حتى تشفع للناس» (8).
التحذير من إنتهاك حرمة الإسلام:
إن للإسلام حرمة واجبة الرعاية من إنتهكها فقد شاق الله ورسوله، قال الله تعالى:« ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا » (9).
فالمشاقة إتباع غير طريق المؤمنين، بالإبتداع في الدين وترك ما أجمع عليه علماء الأمة عبر القرون ولم يختلفوا فيه، وترك نهجهم وطريقتهم.
ومما يزيد هذا الوعيد تأكيدا الأمر بوجوب طاعة العلماء العارفين بالدين وقواعده ومبادئه وأصوله، بعد طاعة الله ورسوله، قال تعالى:« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا » .(10)
وقال سبحانه:« وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا » (11).
وأولوا الأمر هم الأمراء والعلماء، وجميع ما سبق من التحذير من المشاقة، بالخروج عن طاعة الله ورسوله والعلماء بشرعه، ووجوب إلتزام السمع والطاعة لهم، هو من الحدود الواجبة الرعاية، يدخل في عموم قوله تعالى:« وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ » (12).
التحذير من إفتاء الجهال:
إذا كان العلماء ورثة الأنبياء فلأنهم حملة لواء التبليغ بعدهم، يبينون ويفسرون على ضوء الأصول والقواعد والآثار، ويستنبطون بإجتهادهم ما ليس فيه نص واقتضته المصلحة والضرورة، فبوجودهم يعم نور العلم، وبفقدهم ينتشر ظلام الجهل، وقبضهم سبب لهلاك الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إن الله لا يقبض العلم إنتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما إتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا » أخرجه مسلم (13).
ففي هذا الحديث تحذير قوي من خوض الجهال في الدين، وحث على تعلم العلم المتعلق بأمور الدين، وذم من يبادر إلى الجواب بغير تحقق، لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ العلم ونشره، كقوله عليه السلام من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:« لبيلغ شاهدكم غائبكم » (14).
وقوله عليه الصلاة والسلام:« نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع » (15). (إلى غير ذلك من النصوص المشهورة في هذا الباب).
خاتمة:
إن إعطاء الباحثين والأفراد والمتعلمين حق دراسة النص القرآني، ومساءلة مختلف التأويلات التي خضع لها وتحليل الممارسات الإجتماعية التي أدت إليها، هو إعطاء حق لغير أهله (من غير أهل العلم)، فللتفسير شروطه كما أن للإجتهاد شروطه، فلا يجوز التأويل ولا مراجعته إلا لمن أوعب علوم الشريعة والعربية وتبحر فيهما، إذ أن مجال هذه الدراسة هو القرآن والسنة، و هو مجال مقدس، لأن مبلغه لا ينطق عن الهوى ورثه لمن دأبوا على تدبر أدلته وتحصيل أصوله وفهم مقاصده.
ولا يسعنا إلا أن نقول إن الإسلام محرم لا يجوز ولوج رحابه إلا بالتلبس بشروطه وإحترام قواعده، وغاية من طلب المراجعة أن يسأل أهل الإختصاص كما أمر، أو يعكف أولا على تعلم أصوله وعلومه وأقوال السلف والخلف، قبل أن يتصدى لتحليل أدلته وانتقاد إجتهادات أعلامه.
وليعلم أنه إنما أمرنا بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من صلواتنا لأن فيها إستعاذة من سلوك سبيل من غضب الله عليه ومن ضل عن سبيله، إذ أن الصنف الأول عرف الحق فعمل بخلافه فغضب الله عليه، والثاني تعبد بجهالة فكان من الضالين.
ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم وشرف الكتاب العزيز والسنة الشريفة، كما أورده القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره الجامع لأحكام القرآن:
إِنَّ الْعُلُومَ وَإِنْ جَلَّتْ مَحَاسِنُهَا فَنِتَاجُهَا مَا بِهِ الْإِيمَانُ قَدْ وَجَبَا هُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ اللَّهُ يَحْفَظُهُ
وَبَعْدَ ذَلِكَ عِلْمٌ فَرَّجَ الْكُرَبَا فَذَاكَ فَاعْلَمْ حَدِيثَ الْمُصْطَفَى فِيهِ
نُورُ النُّبُوَّةِ سَنَّ الشَّرْعَ وَالْأَدَبَا وَبَعْدَ هَذَا عُلُومٌ لَا انْتِهَاءَ لَهَا
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا مَنْ آثَرَ الطَّلَبَا وَالْعِلْمُ كَنَزٌ تَجِدُهُ فِي مَعَادِنِهِ
يَا أَيُّهَا الطَّالِبُ ابْحَثْ وَانْظُرِ الْكُتُبَا وَاتْلُ بِفَهْمٍ كِتَابَ اللَّهِ فِيهِ أَتَتْ
كُلُّ الْعُلُومِ تُدَبِّرُهُ تَرَ الْعَجَبَا وَاقْرَأْ هُدِيتَ حَدِيثَ الْمُصْطَفَى وَسَلَنْ
مَوْلَاكَ مَا تَشْتَهِي يَقْضِي لَكَ الْأَرَبَا مَنْ ذَاقَ طَعْمًا لِعَلَمِ الدِّينِ سُرَّ بِهِ
إِذَا تَزَيَّدَ مِنْهُ قَالَ وَاطَرَبَا
الهامش:
- 1سورة الأنبياء الآية .7
- 2سورة التوبة الآية 123.
3– سورة المجادلة الآية 11.
- 4سورة الزمر الآية .10
- 5سورة آل عمران الآية .18
–6 في باب العلم قبل القول والعمل من كتاب العلم من الجامع الصحيح.
-7من نفس الكتاب.
–8الحطة في ذكر الصحاح الستة ص .15
9– سورة النساء الآية 114.
-10نفس السورة الآية .58
11- نفس السورة الآية 82.
12– سورة الطلاق الآية 1.
13– أخرجه في كتاب العلم من جامعه.
14– أخرجه إبن ماجة.
15– أخرجه الترمذي.
عبدالرحمان سعيدي
نشر هذا الرد في حينه في جريدة الراية سابقا عدد: . 299
__________________________________
19شعبان 1434هجرية / 28يونيو 2013